الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
في كتاب أبي الشيخ ابن حيَّان: أن الصفَّ الأوَّل أمنعُ من الشيطان من سائر الصفوف، وهو عندي من الشمال إلى الجنوب، لا من دخلوا مع الإمام في مَقْصُورَته. وقيل: بل هو الذي خلف الإمام في مقصورته. وهناك قولٌ ثالثٌ، وهو مهجورٌ: أنهم مَنْ دَخَلُوا في المسجد أولا أينما كانوا.
وهذا لفظ الحديث تَرْجَمَ به، وقد فرَّق الراغب بين التمام والكمال: بأن التمام في الأجزاء، والكمال في الأوصاف. وحينئذٍ ظَهَرَ منه تمسُّك ابن حَزْم. قلتُ: إن الأوصاف إذا كانت مهمةً تُنَزَّل منزلة الأجزاء، لأنَّا قد عَلِمنا أن المختلِف في الصف لم يُؤْمَر بالإِعادة، ولم يُعَامَل بصلاته معاملة البطلان، ثم إن الحديثَ دلَّ على أن إقامة الصلاة أَمْرٌ وراء الصلاة، ففرَّق بين صلُّوا، وبين أقيموا الصلاة. وأوضحه البَيْضَاوِي وغيره.
قال: ما أَنْكَرْتُ شيئًا، إلاّ أنكم لا تُقِيمُون الصلاة، وقد مرَّ عنه في باب تضييع الصلاة: «لا أعرف شيئًا ممّا كان على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم إلا الصلاة، وقد ضُيِّعَتْ». فإنه كان هذا بالشام، والأوَّل في المدينة. وهذا يَدُلُّ على أن أهل المدينة كانوا في ذلك الزمان أمثلَ من غيرهم في التمسُّك بالسنن.
قال الحافظ: المراد بذلك المبالغة في تعديل الصفِّ وسدِّ خلله. قلتُ: وهو مراده عند الفقهاء الأربعة، أي أن لا يَتْرُكَ في البين فرجةً تَسَعُ فيها ثالثًا. بقي الفصل بين الرجلين: ففي «شرح الوقاية» أنه يَفْصِلُ بينهما بقدر أربع أصابع، وهو قول عند الشافعية، وفي قولٍ آخر: قدر شبر. قلتُ: ولم أجد عند السَّلَفِ فرقًا بين حال الجماعة والانفراد في حقِّ الفصل، بأن كانوا يَفْصِلُون بين قدميهم في الجماعة أزيد من حال الانفراد، وهذه المسألة أوجدها غير المقلِّدين فقط، وليس عندهم إلا لفظ الإِلزاق. وليت شعري، ماذا يَفْهَمُون من قولهم الباء للإِلصاق، ثم يمثِّلُونه: مررت بزيدٍ، فهل كان مروره به متَّصِلا بعضه ببعض، أم كيف معناه؟ ثم إن الأمر لا يَنْفَصِلُ قطُّ إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لا يُؤْخَذُ بالألفاظ، كلفظ: «فوق الصدر» عند ابن خُزَيْمَة، فإنه من توسُّع الرواة قطعًا، لأنه لم يَعْمَل به أحدٌ من الأئمة، ولا يُوجَدُ الرفع بهذا النوع في كُتُبٍ من الشافعية، إلا في «الحاوي» للماوردي، وهو أيضًا مسامحةٌ عندي. فإِن الرَّاوي أضاف لفظ: «على الصَّدْر» بعد مرور القرون، ثم لم يُرِدْ به إلا قريبًا من الصدر، ولس الطريق أن يُبْنَى الدين على كل لفظٍ جديدٍ بدون النظر إلى التعامل، ومن يَفْعَلُ ذلك لا يَثْبُت قدمه في موضعٍ، ويَخْتَرِعُ كل يومٍ مسألةً، فإن توسُّع الرواة معلومٌ، واختلاف العبارات والتعبيرات غير خَفِيِّ فاعلمه. فاللفظ وإن كان يَصْلُح للوضع فوق الصدر، لكن لمَّا فَقَدْنا العملَ به عَلِمنا أنه من توسُّع الرواة، فهو بدعةٌ عندي. وسأل عنه أبو داود الإمامَ أحمد رحمه الله تعالى، فقال: ليس بشيءٍ، كذا في كتاب «المسائل». وهذا الذي عُرِضَ للمحدِّثين، فإنهم يَنْظُرُون إلى حال الإسناد فقط، ولا يُرَاعُون التعامل. فكثيرًا ما يَصِحُّ الحديث على طورهم، ثم يَفْقِدُون به العمل، فيتحيَّرون حتَّى أن الترمذي أخرج في «جامعه» حديثين صالحين للعمل، ثم قال: إنه لم يَعْمَل بهما أحدٌ، وذلك لفقدان العمل لا غير، وإلا فإسنادهما صحيحٌ. وكذلك قد يُضَعِّفُون حديثًا من حيث الإسناد، مع أنه يكون دائرًا سائرًا فيما بينهم، ويكون معمولا به فيتضرَّر هناك من جهة أخرى. فلا بُدَّ أن يُرَاعى مع الإسناد التعامل أيضًا، فإن الشرع يَدُور على التعامل والتوارث. والحاصل: أنا لمَّا لم نَجِد الصحابة والتابعين يفرِّقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد، عَلِمْنَا أنه لم يُرِدْ بقوله إلزاق المِنْكَب إلا التَّرَاصّ وترك الفرجة، ثم فَكِّر في نفسك ولا تَعْجَل: أنه هل يمكن إلزاق المِنْكَب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضًا؟ فهو إذن من مخترعاتهم، لا أثر له في السلف. وعند أبي داود في باب وضع اليُمْنَى على اليُسْرى في الصلاة: «صفُّ القدم، ووضع اليد على اليد من السنة». قلتُ: ومراده استواء القدمين مع التَّجَافِي، فلا يبحثون عن إلزاق الكعبين أصلا، ولا يذكرون فيه إلا الصفّ ثم في النَّسائي في باب الصف بين القدمين: «أن رجلا صفَّ بين القدمين، فقال له ابن مسعود رضي الله عنه: خالف السنة، لو راوح كان سنةً». ومراده بعكس ما هناك، أي يَضُمُّ بين قدميه، ولا يَتْرُك فرجةً بينهما. وأراد بالمرواحة: التفريج بين القدمين. فالصف عند أبي داود بعكس ما في النَّسائي فتنبَّه، فإنه ليس من المصطلحات ليَلْزَم بالمخالفة. ولا تتوهَّم أن بين اللفظين تَنَاقُضًا، فإنه يبني على تعدُّد المعنيين، فالصفُّ بمعنى التفريج والاستواء سنةٌ، وهو بمعنى الضم بينهما مخالفٌ للسنة، فافهم وتشكَّر وما في «القنية»: إلزاق الكعبين في الركوع كما هو في «رد المحتار»، فلا أصل له كما في «السعاية». وتلخَّصَ أن الصفَّ بين القدمين سنةٌ لا غير، لأنهم لا يذكرون. ولا يتعرَّضُون إلى غيره، فحَسْبُهم قدوة.
يُرِيدُ أن هذا القَدْر ليس بعملٍ كثيرٍ ولا مُفْسِدٍ، وصورته كما عند مسلم، وقد مرَّ ثم أن هذه الترجمة قد مرّت مرةً مع تغييرٍ يسيرٍ، وهو أنه كان في الأُولَى «لم تَفْسُد صلاته»، وههنا: «تمَّت صلاته». والوجه فيه: أن المقصودَ أولا كان بيان موضع الإمام والمأموم فقط، وذكر مسألة التحويل إنجازًا، وههنا هي المقصودة. أو يُقَال: إن المقصود في الأول: بيان عمل القليل والكثير، وههنا: بيان تمامية الصلاة، مع أن بعضها صُلِّيت على خلاف ترتيب موضع المأموم حتى قوله عنه.
وفي الفقه: أن الصبيَّ إن كان واحدًا يقوم مع البالغين، وإلا فخلف الصفِّ، وكُرِهَ إن قام مع الصفِّ. وأمَّا المرأة، فليس موضعها إلا خلف الصفِّ واحدةً كانت أو جماعةً، ومن مثل هذا ذَهَبَ نظرُ إمامنا إلى أن مُحَاذَاتها مفسدةٌ أنه لم يتحمَّل صفها مع الرجال مطلقًا. ويَحْدُثُ في مثل هذه المواضع أذواقٌ، ومَنْ لم يَذُق لم يَدْرِ.
عيَّنه المصنِّف رحمه الله تعالى باعتبار الإمام، وعندي لا مَيْمَنَة له ولا مَيْسَرَة، لكونه اعتبارية في المسجد. أمَّا في الإمام، فيكون باعتبار استقباله إلى القبلة، وهذه المسألة لم يتعرَّض لها الفقهاء. نعم يُحْتَاج إليها في الحديث لِمَا فيه: «أن الرَّحمة تَنْزِلُ أولا على الإمام، ثم على يمينه، ثم على يساره».
أشار إلى مسألة اتحاد المكان بين الإمام والمأموم. قال الحنفية: إن المسجد كلَّه مكانٌ واحدٌ، فإن حالت الجدران، فهل يُشْتَرَط المنفذ، أو كفى علم انتقالات الإمام فقط، ولو بمجرد صوته؟ فالثاني هو المُفْتَى به، ولا حاجةَ إلى المنافذ أو غيرها، واعتبروا في الصحراء تباعُدَه قدر ثلاث صفوف إذا لم تتصل الصفوف، فإن كان بينهما طريقٌ أو نَهْرٌ تجري فيه السفينة مُنِعَ مطلقًا، ويُعَدُّ كأنه مكانٌ مختلفٌ، ويَشْهَدُ له أثر عمر رضي الله عنه، كما في «الحاشية»، ولعلَّه في «المصنَّف» لعبد الرَّزَّاق. 729- قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يُصَلِّي من الليل في حُجْرَتِهِ...) الخ. اختلف الشارحون في تفسير الحُجْرَة، ما كانت؟ وحملها الطَّحَاوِيُّ رحمه الله تعالى على بيت عائشة رضي الله عنها، وحينئذٍ الفاصل هو الجدار. وحملها الشارحون على حُجْرَتِهِ التي كانت تُتَّخَذُ من الحصر لمُعْتَكَفِهِ في رمضان. قلتُ: والأرجح عندي أن يُحْمَلَ على التعدُّد، فإن حَمْلَ الجدار على الحصير مجازٌ بعيدٌ. 729- قوله: (يُصَلُّون بصلاته). أَمْعِن النظر فيه، حيث لم يَقُل: صلاتهم، مع أنه الظاهر، وجعلهم مُصَلِّين بصلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهل يُصَلِّي أحدٌ صلاةَ أحدٍ؟ وهل يأتي هذا التعبير على مسائل الحنفية أو الشافعية؟ فقد تكلَّمنا عليه وعلى مثله مِرَارًا، وسنعود إليه في باب الوتر شيئًا إن شاء الله تعالى. 729- قوله: (فلم يَخْرُجْ...) الخ، ومعناه على مختار الشارحين: أي لم يَخْرُج من مُعْتَكَفِهِ إلى حيث كان يُصَلِّي صلاة الليل. 729- قوله: (إني خَشِيتُ أن تُكْتَبَ عليكم)، وههنا إشكالٌ: وهو أنه كيف خَشِيَ الكتابة، مع أنه قد أَعْلَن بأنَّ الفرائضَ خمسٌ لا تزيد ولا تَنْقُص؟ وأُجِيبَ بأن انحصار فريضة العمر في الخمس لا يُنَافي زيادة فريضةٍ في رمضان خاصةً، فمعناه: خَشِيتُ أن تُكْتَبَ عليكم صلاتكم هذه في رمضان، فلا يُنَافي ما افْتُرِضَ في خارجه. ثم ذَكَرَ له الحافظ رحمه الله تعالى جوابين من عند نفسه. والأرجحُ عندي أن الخَشْيَةَ خَشَيَةُ الجماعة، أي تُكْتَبَ عليكم الجماعةُ فيها، وللجماعة تأثيرٌ في الإِيجاب، ولذا أمرهم أن يُصَلُّوها في بيوتهم، ولا يجتمِعُوا بها. ولمَّا كان للوجوب اختصاصٌ بالجماعة، وَجَبَت صلاة الاستسقاء عندنا في قولٍ لكونها بالجماعة. وهل للمواظبة والاعتناء دَخْلٌ في إيجاب شيءٍ أو تحريمه؟ فالجواب كما ذكره الشاه وليُّ الله في «حُجَّة الله»: أن الشيءَ قد يَجِبُ ويَحْرُم بالمواظبة أيضًا إذا كان الزمانُ زمانَ نزول الوحيِ، كنذر يعقوب عليه السلام بترك أحب الأشياء إليه، وكان أحب الأشياء إليه لحم الإبل، فلم يأكله لنذره واستمرَّ على تَرْكِه ذُرِّيَّتُه تبعًا لأبيهم، فلمَّا تمادى الأمر على ذلك حُرِّم على بني إسرائيل في التوراة. قلتُ: ويُسْتَفَاد منه: أن حقيقة صلاة الليل مما تَصْلُح أن تكونَ فرضًا وإن لم يَحْكُم به عليها، لا يُقَال خَشْيَة الكِتَابة تَدُلُّ على عدم الكتابة في الحالة الرَّاهِنَةِ، وهذا يُخَالِفُ ما اخْتَرْتَ من وجوب قطعة من الليل، وهي الوتر. قلتُ: كلا، لأني حَمَلْتُ الخَشْيَة على الجماعة، والوتر وإن كانت مكتوبةً عندنا، لكنها ليست بالجماعة.
قيل هذه الترجمة أجنبية في تضاعيف تراجمه من هذا الباب، فإن أبوابَ صلاة الليل بعيدةٌ، ولم يَدْخُل المصنِّف رحمه الله تعالى في صفة الصلاة بَعْدُ. قلتُ: وهو إنجازٌ، لأنه لمَّا أخرج حديث: «صلاة الليل» أحبَّ أن يَضَعَ عليه ترجمةً الآن، وإن كانت قبل أوانها على دَأْبِهِ بالإنجاز، ويمكن أن يكون أراد تعيين القصة الماضية وفيه: «كان له حصير»، ومنه فَهِمَ الشارحون أن حُجْرَته كانت من حصيرٍ. 731- قوله: (فإِن أفضلَ صلاة المَرْءِ في بيته إلا المكتوبةَ). والحاصل: أن الشريعةَ لا تُحِبُّ التطوعَ في المساجد، والمكتوبات في البيوت. وأعلم أن مختار الطَّحَاوِيِّ في التراويح: أن الرجل إن كان حافظًا، فالأفضل له أن يُصَلِّي في البيت، وإلا ففي المسجد، وفي «الهداية»: أن السننَ عامةٌ في البيت، ولا أرى سنةَ الفجر ثابتةً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في المسجد. وأتى الحافظ زين الدين العراقي شيخ ابن حَجَر والعَيْنِي رحمهما الله تعالى- برواية تَدُلُّ على أن نسبة أجر الفَضْل في البيت والمسجد لنِسْبَة صلاة الجماعة والفرد- بالمعنى- وإسناده جيدٌ.
فاختار أنه فرضٌ واعلم أن التكبير بمعنى الذكر المُشْعِر بالتعظيم فرضٌ عندنا أيضًا أمَّا صيغة: الله أكبر بخصوصها، فقال بعضُ أصحابنا إنها سنةٌ، وذَهَب الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى إلى أنها واجبٌ، وقوَّاه بدلائل، وإليه ذهب صاحب «البحر» و«النهر» وصاحب «تنوير الأبصار»، وهو متن «الدر المختار»، وهو الذي اختاره ابن أمير الحاج في «شرح المنية». واعلم أن ابن نُجَيْم أفقه عندي من الشَّامي لِمَا أرى فيه أن أمارات التفقُّه تَلُوح، والشَّامي مُعَاصِرٌ للشاه عبد العزيز رحمه الله تعالى، وهو أفقه أيضًا عندي من الشَّامي رحمه الله تعالى، وكذا شيخ مشايخنا رشيد أحمد الكَنْكُوهِي- قُدَّسَ سرُّه- أفقه عندي من الشَّامي. أمَّا السلام: فقالوا إن أولَ التسليمتين واجبٌ، والأخرى سنةٌ، وهو الراجحُ عندي، لكونه أقرب إلى الحديث، لِمَا ثَبَتَ عندي الاكتفاء بالتسليم الواحد. وقيل: كلاهما واجبان، فيُشْكِلُ عليه الحديث، وقد اسْتَرَحْتُ باختيار القول الأول، فلا تأويل عندي. ثم اختلف الشارحان في قوله: «وافتتاح الصلاة»، ولم يُدْرِكَا مراده بعد البحث والفحص أيضًا، واختار الحافظ: أن الواو بمعنى مع، لأنه رَأَى أن افتتاح الصلاة في الخارج لا يكون إلا بالتكبير، وما كُشِفَ لي في بيان مراده هو أن المصنِّف يُرِيدُ تَعْيين ما به افتتاح الصلاة، هل هو التكبير أو رفع اليدين؟ فقال إن الصلاة تُفْتَتَحُ بالتكبير، فلو رَفَعَ إحدى يديه، ولم يكبِّر لا يكون شارعًا في الصلاة، وهذا كاختلافهم فيما يَدْخُل به في الحج، وهو إحرام الحجِّ. فعندنا لا يَدْخُلُ في إحرام الحجِّ إلا بالتلبية مع النية، وهذا إحرامٌ قَوْليٌّ، أو بفعلٍ مخصوصٍ بالحجِّ، وهذا إحرامٌ فِعْلِيٌّ. وأما عند الشافعية: فلم يَتَنَقَّح بَعْدُ، وعليه قوله صلى الله عليه وسلّم «تحريمها التكبير- وفي لفظ- إحرامها التكبير»، يعني كما أن للحجِّ إحرامًا وإحلالا، وهو معروفٌ، كذلك للصلاة تحريمًا وتحليلا: فتحريمها بالتكبير، وتحليها بالتسليم. فَعُلِمَ أن ما يَدْخُلُ به الرجلُ في صلاته هو التكبير لا رفع اليد فقط، وإنما أَدْرَكْتُ مراده بعدما رأيت حكايةً: أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى ذَهَبَ لعيادة أبي يوسف رحمه الله تعالى، وكان مريضًا فقال: إني كُنْتُ ظَنَنْتُ أنه يَبْقَى مِنْ بعدي، فحدَّثت نفسُ أبي يوسف رحمه الله تعالى. بأنه يُشِيرُ إلى إجازته بالقعود للدرس. فلمَّا صَحَّ أرسل أبو حنيفة رحمه الله تعالى إليه رجلا يسأله عن ثلاث مسائل: أولاها أن تحريمة الصلاة ما هي؟ فلم يُحْسِن في جوابه، فَعَلِمَ أنه لا يَلِيقُ أن يَجْلِسَ إليه الناسُ، فنقض حلقته، ودخل في حلقة أبي حنيفة. وفي «مجموع زيد بن عليّ»- وهو زيدي من مُعَاصِري أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وإمام فِرْقة الزيدية، وهو ثِقَةٌ يروي الأحاديث الصِّحَاح، وهي أقرب المذاهب إلى أهل السنة من سائرهم. وسَبُّ الصحابة حرامٌ عندهم. إلا أن الآفة في كتابه من حيث جهالة ناقليه : أنه لمَّا وَرَدَ الكوفة، قَعَدَ أبو حنيفة رحمه الله تعالى بين يديه إكرامًا له وإجلالا، لكونه من أهل البيت، وفيه: أن أبا جَعْفَر رضي الله عنه سَأَلَ الإمامَ أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن تحريمة الصلاة، أهو بالتكبير، أم برفع اليد؟ فقال: بالتكبير. ولمَّا ذَهَبَ الإمام قال: نَعْمَ فقيهٌ. فَفَهِمْتُ أن البخاريَّ رحمه الله تعالى يُشِيرُ إلى هذه المسألة، واختار أن تحريمة الصلاة بالتكبير. ثم اعلم أن الأصوليين قَسَّمُوا الخِطَاب على نحوين؛ وَضْعِي وتكليفي. فأما التكليفي، فكالوجوب وغيره، وأمَّا الوَضْعِي، فكالسببية والمسببية وعلائق الأشياء فيما بينها، وذلك لأنهم أرادوا تقسيم الأحكام إجمالا، فجعلوا بعضها وَضْعِيَّة، وبعضها تكليفيَّة، وهو حسنٌ ومهمٌ جدًا. فالتكبير والتسليم من الأحكام الوَضْعِيَّة، لأن التكبيرَ سببٌ للدخول، والتسليم سببٌ للخروج، وليس في الصلاة حكمًا وضعيًا غيرهما، ومنه ظَهَرَ وجه تخصُّص هذين في الحديث. ثم إن الخروج في باب الحجِّ يكون بالحَلْق، وهو جناية في غير أوانه، وكذلك السلام، وهو الخروج بصُنْعِه فاعلمه. 732- قوله: (إنما جُعِلَ الإمامُ لِيُؤْتَمَّ) الخ. يقول العبد الضعيف: والحديث وإن مرَّ مِرَارًا، ويأتي كذلك، إلاّ أنه ظَهَرَ لي الآن أن أتكلَّم على بعض مسائله، وهي مسألة اقتداء القائم بالقاعد، وإن تكلَّمت عليه فيما سَلَفَ أيضًا. فأقول إن الحديثَ بظاهره يُخَالِفُ كل من اختار وجوب القيام خَلْفَ القاعد من أئمة الحنفية والشافعية. واشتهر عنهم في الجواب عنه أنهم قالوا بالنسخ، وهو الذي اختاره البخاريُّ رحمه الله تعالى، ولا يَعْلَقُ بالقلب، لأن الحديثَ مُشْتَمِلٌ على أجزاءَ كثيرةٍ من تشريع عامَ، وضابطةٍ كلِّيَّةٍ على نحو بيان سنة، وسردِ معاملةٍ بين الإمام والمأموم. فالقول بنسخ جزء من الأجزاء من البيِّن، وإبقاء المجموع على ما كان ثَمَّ بواقعةٍ جزئيةٍ تَحتُمَلُ محامل، مما يُفْضِي إلى الاضْطِراب، ولا يشفي. ولعَمْري، إنا لو لَمْ نعلم هذه المسألة، لَمَا انتقل ذِهْنُ أحدنا إلى أن صلاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم تلك قاعدًا كانت لبيان النَّسْخِ، وإنما حملناها عليه حِفْظًا للمذهب فقط، وإلا فالجمع بين الأحاديث يَحْصُلُ على مذهب أحمد ومحمد بن الحسن رحمه الله تعالى منا، ولا يُحْتَاج إلى النَّسْخِ. أَلا تَرَى أن ساداتنا لمَّا تَرَكُوا مسألة جواز الاستقبال والاستدبار، لم يُبَالُوا بوقائع تُنْقَلُ في هذا، وقالوا: إنها وقائع غير مُنْكَشِفة الحال. وحديث أبي أيوب تشريعٌ عامٌّ، فلا أَدْرِي، ولَسْتُ إخال أدري أنه ما الفرق بين هذين؟ فَذَهَبُوا إلى النَّسْح ههنا دون هناك. ولقد تفرَّد الشيخ رحمه الله تعالى بحلِّه، فجمعته من تقاريرٍ له شتى عندي بَعْدَ جِدَ واجتهادٍ تامٍ، وفكرٍ بالغٍ، وتعمُّقِ نَظَرٍ، وإعمالِ درايةٍ، وإتعاب نفسٍ، فاجتمعت عندي عِدَّة أجوبة من كلامه، وها أنا أسردها على ما هذَّبتها، فهل من حرَ يَنْظُرُ بعين الإنصاف، ولا يَسْلُكُ مَسْلَكَ الاعتساف، وإنما وَضَعْتُ هذه في صدر الصحيفة، لأن كلها من الشيخ رحمه الله تعالى، ما خَرَمْتُ منها حرفًا، ولا زِدْتُ عليها حرفًا غير البيان والإِيضاح، وأرجو من الله سبحانه أن يكون هذا هو مراده إن شاء الله تعالى. تحرير المذاهب: وأعلم أن الشافعيةَ والجمهورَ مع الحنفية رحمهم الله تعالى في وُجُوب القيام خَلْفَ الإِمام القاعد، وعدم جواز القعود خلفه. وذهب أحمد رحمه الله تعالى إلى وُجُوب القُعُود خلف القاعد ولو كان القومُ أصحَّاء ثم ذَكَرُوا له شروطًا: من كون الإمام إمام الحيِّ، ومرضه ممَّا يُرْجَى زواله. ثم فرَّقُوا بين القُعُود الطارىء. والأصلي، فتحمَّلوا قيام القوم في الأوَّل دون الثاني، ووجه الفرق ما نُقِلَ عن أحمد رحمه الله تعالى. وحاصله: أن وُجُوبَ القُعُود، وكراهة القيام خلف القاعد، إنما هو لأجل الشَبُّه بالأعاجم في إفراط التعظيم لعظمائهم، كما يتَّضِحُ من سِيَاق أبي داود. وذاك إنما يُتَصَوَّرُ إذا كان الإمام قاعدًا من أول الأمر، لأن قيامهم حينئذٍ يُعَدُّ من قيام الأعاجم، حيث إنهم أيضًا يَقُومُون بين يدي أمرائهم الجالسين. وأمَّا إذا أمَّهم الإمام قائمًا، واقتدى به القوم كذلك، ثم طَرَأَ على الإِمام عُذْرٌ فَقَعَدَ فلا يُعَدُّ قيامهم للتعظيم، فإنهم كانوا قائمين من قبل، وإنما أَوْرَث صورةَ التعظيم قعودُ الإمامِ. وبعبارةٍ أوضح: إن التعظيمَ إنما هو في القيام للقاعد، دون القُعُود للقائم، فههنا قَعَدَ الإِمام مع كون القوم قائمين، ففيه قُعُودٌ للقائم، دون القيام للقاعد، وبينهما بَوْنٌ بعيدٌ، واسْتَفْتِ قلبَك إن شِئْتَ، فهذا هو الذي دَعَى الإِمامُ إلى الفرق بينهما. وأمَّا مالك رحمه الله تعالى، فالمشهور عنه أنه لا يَجُوز اقتداء القادر بالقاعد مطلقًا، لا قائمًا ولا قاعدًا. وروى وليد بن مسلم عنه جَوَازَه عند قيام القوم، وحَمَلَها الناسُ على اختلاف الروايتين. وعندي ليس كذلك، بل مذهبهُ هو مجموعُ الروايتين، وقد نَبَّهْتُكَ فيما سَلَفَ أن روايةً قد تَرِدُ عن إمام، ثم تَرِدُ أخرى، وتكون كلتاهما كاشفتين عن وجهة وجهة، ولا يتمُّ المراد إلا بهما، ثم يحملهما الناس على الروايتين. وما الفرق بين الروايتين عن إمامٍ، وبين الحديثين عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلّم حيق يَطْلُبُون جهة التوفيق والقدر المشترك بين المرفوعين، ولا يَطْلُبُونها بين الروايتين، ولو سلك الناس هذا المسلك، لاسترحنا كثيرًا. وحاصل مذهبه على هذا التقدير: تجويزُ القيام خلفَ القاعدِ مع تقبيح ابتغاء اقتداء القائمين بالقاعد مع تمكُّن الاقتداء بالقائم القادر. ولا بحثَ فيها عن الجواز وعدمه، فالروايةُ الأولى عندي لبيان عدم الابتغاء، وأنه ينبغي أن لا يَقْتَدِي القادرُ بالمعذور مهما أمكن الاقتداء بالقادر. والروايةُ الثانيةُ لبيان جوازه في الجملة، فهي تَكْشِفُ الروايةَ الأولى، وتوضِّحُ أن نفي الاقتداء في الرواية الأولى محمولٌ على عدم الانبغاء، لا على النفي رأسًا، فهذه كاشفةٌ عن وِجْهة، وهذه عن وجْهة، والمراد بتمامه في المجموع. إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن ههنا أمرين: الأولُ: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «إذا صلَّى قاعدًا، فصلُّوا قُعُودًا»، والثاني: إشارتُه إليهم بالقعود حين اقتدوا به قائمين. ويجب علينا لتفصِّي عنهما، فنقولُ في الجواب عن القول على ما أَجَابَ به ابن دقيق العيد: إن في قوله: «إذا صلَّى قاعدًا»... الخ إحالةً على موضع القعود، وليس المراد القعود بدل القيام، أي إذا قَعَدَ الإمامُ في قَعْدَتِهِ فاقعدوا أنتم أيضًا، ولا تختلفوا عليه. ولا بُعْدَ فيه، لأن حديث أنس رضي الله عنه يَشْتَمِلُ على سلسلة في أفعال الصلاة، من القيام إلى الركُوع، ومن الركُوع إلى القيام، ومن القيام إلى السُّجُود، ومن السُّجُود إلى القُعُود، فأي بُعْدٍ في إرادة هذا القيام، وهذا القُعُود. وأوْرَدَ عليه هو بنفسه أن الألطف في هذا المراد: إذا قَعَدَ فاقعدوا، ليُوَافِق قرائنه: إذا كبِّر فكبَّروا... الخ، مع أنه غَايَرَ بين السياق، وقال: «إذا صلَّى قاعدًا... الخ، فدَلَّ على أنه لم يُرِدْ به ذلك. قلتُ: وجوابُه عندي: أن أفعالَ الصلاة على نحوين: بعضُها عبادةٌ كالرُّكُوع والسُّجُود، وبعضُها يُشْبِهُ العادة أيضًا كالقُعُود والقيام، فإِنهما من الأحوال العامة أيضًا ولا يتعيَّنان في العبادة، فأَدْخَل عليها لفظ الصلاة للفرق بين العبادة والعادة والتمحُّض للعبادة، وهكذا فَعَلَه القرآن، فإذا ذَكَرَ الركوعَ والسجودَ أطلقهما، وقال: {ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ} (الحج: 77) وإذا ذَكَرَ القيامَ أَتْبَعَهُ بلفظٍ يُشِيرُ إلى كونه عبادة، فقال: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ} (البقرة: 238)، ولم يَأْمُر في موضع بالقيام مطلقًا كما أَمَرَ بالركُوع والسجُود، وذلك لأن: {وَقُومُواْ} لا يتعيَّن للعبادة، بخلاف الركوع والسجود. والجواب الثاني: أن الحديثَ ليس ابتدائيًا ليدُلَّ على مطلوبية القُعُود أو وَجُوبه من جهة الشارع، بل وَرَدَ في سِيَاق التعليم حين تَعَنَّتُوا باقتدائه قاعدًا، فهو إذن لذمِّ التعنُّت في اقتداء القائم بالقاعد، وتفويت المشاكلة المطلوبة بينه وبين إمامه، وكراهية الإِفراط في التعظيم والتشبُّه بالعَجَمِ. وفَرْقٌ بين الأمر بالشيء ابتداءً، وبين الأمر به في نحو سِيَاق الإِصلاح. فإِن الأولَ أقربُ إلى الوُجُوب، والثاني يَنْزِلُ على الإِباحة أيضًا. أَلا تَرَى إلى قوله: «صلُّوا في مَرَابِض الغنم»، ليس الأمر فيه للوُجُوب، لأنه ليس ابتدائيًا كما مرَّ، فكذلك ههنا، وإنما وَرَدَ في سِيَاق الإِصلاح. وحينئذٍ لم يَخْرُج منه تحريم القيام خَلْفَ القاعد، بل إباحته القُعُود خَلْفَ القاعد أو تحسينه، كما يُسْتَفَادُ من إشارته بالقُعُود، ويَدُلُّ عليه ما عند مسلم في حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: «إنما جُعِلَ الإمام لِيُؤْتَمَّ به، فلا تَخْتَلِفُوا عليه». وعند الترمذي كما سيجيء: «فليصنع كما يصنع الإمام»، كل ذلك طلبًا للمشاكلة. ويتَّضِحُ ذلك مما عند أبي داود، في باب الإمام يصلِّي من قُعُود، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: «رَكِبَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّم فَرَسًا بالمدينة، فَصَرَعه على جِذْم نخلةٍ، فانفكت قدمه، فأتيناه نَعُودُه فوجدناه في مَشْرُبة لعائشة رضي الله تعالى يُسَبِّح جالسًا، قال: فقمنا خلفه، فَسَكَتَ عنّا، ثم أتيناه مرةً أخرى نَعُودُه فصلَّى المكتوبةَ جالسًا فقُمْنَا خلفه فأشار إلينا فَقَعَدْنا، قال: فلما قضى الصلاة قال: إذا صلَّى الإمامُ جالسًا، فصلُّوا جلوسًا. وإذا صلَّى الإمامُ قائمًا فصلُّوا قيامًا ولا تفعلوا كما يَفْعَلُ أهلُ فارس بعظمائها» ا ه. فسكوتُه في اليوم الأول دليلٌ صريحٌ على عدم وُجُوب القُعُود خَلْفَ القاعد، وعدم حُرْمة القيام خلفه، ولذا لم يُشِرْ إليهم بالقُعُود، ولا علَّمهم شيئًا في هذا الباب، حتى إذا أحسَّ منهم التعنُّت فيه، حيث جاؤا في اليوم الثاني أيضًا واقتدوا به، فحينئذٍ عَنَّفَهم على تعنُّتهم ذلك وابتغائهم الإِمام القاعد. مع أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان سوَّى لهم إمامًا قادرًا في المسجد النبوي ليصلِّي بهم، ثم صلَّى في المَشْرُبَة مُتَنَحِّيًا عنهم، ومع ذلك لم يَتْرُكُوه حتى اقتدوا به في صلاته قاعدًا، ولمَّا فَعَلُوا ذلك في اليوم الثاني عَلِمَ أنه لم يكن ذلك منهم اتفاقًا، بل كان قَصْدًا فمنعهم عن ذلك. ولو رَاعَيْتَ معه قوله عند مسلم: «إن كِدْتُم آنفًا تَفْعَلُون فِعْلَ فارس والروم. يَقُومُون على ملوكهم وهم قُعُود، فلا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بأئمتكم...» إلخ، لعَلِمْتَ أن النهيَ عن القيام خَلْفَ القاعد إنما هو للإفراط في التعظيم، إلا أنه يُخَالِفُ منصب الائتمام فمعنى الكراهة: هو الإفراط في التعظيم والتشبيه بالتمثُّل للأمراء، ولذا أَغْمَضَ عنهم في مرض الموت، لأنهم لم يَقُومُوا له، وإنما كانوا قائمين من قبل، ثم خَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم هو وأمَّهم قاعدًا، فلم يُوجد منهم التعنُّت في الاقتداء، ولا الإفراط في التعظيم. وإنما اسْتَشْعَرَ ذلك منهم في واقعة الجحوش، فنهاهم. والقول بنسخ الأول من الثاني لا يَقْبَلُه الذَّوْقُ، فإن الراوي لا يذكرهما كالناسخ والمنسوخ، بل يَذْكُرُ واقعتين في سلسلةٍ واحدةٍ وقعت مرةً كذا، ومرةً كذا، على أنَّا لو حَمْلَنَاهُ عليه يَلْزَم النسخُ مرتين: الأول نسخُ القيام بالقعود، ثم نسخُ القُعُود بالقيام في مرض الموت، على ما اختاره البخاريُّ والجمهور، وكذا لا دليلَ فيه على ما ذَكَرَهُ ابن حِبَّان أنها كانت نافلةً في اليوم الأول، ومكتوبةً في الثاني فسكوتُه في اليوم الأول إنما كان لكون صلاته نافلةً تَجُوزُ فيها الصُّوَرُ كلُّها بخلاف اليوم الثاني، فإنها كانت فريضة، ولا يتحمَّل فيها هذا التوسُّع. وفيها الخلاف، وذلك لأن كونها مكتوبةً أو نافلةً تعرَّض إليه الراوي من قبله في ذَيْل القصة، لكونه مناطًا لجواز القيام أو حرمته، وليس في الحديث إيماءٌ إليه، ولا بناءٌ عليه، حيث قال: «وإذا صلى قاعدًا، فصلُّوا قُعُودًا»، ولم يُومِىء إلى هذا التفصيل، بل صرَّح أنه كَرِهَ القيام لأجل الإفراط في التعظيم. ويُقِرُّ به ما رامه مالك رحمه الله على ما قرَّرناه فنهى عن اقتداء القاعد مطلقًا وإن اقتداه قاعدًا، لأنه فهِمَ أنه تعنَّت في ذلك لِمَ لا يقتدي بإمامٍ قادرٍ مثله؟ وإن كان لا بُدَّ فاعلا فعليه أن يقومَ، فإنه فرضٌ، والكلُّ فيه أميرُ نفسه، فلا يَسْقُطُ عن ذمته، وهو الذي تُظْهِرُه رواية وليد بن مسلم عنه. ويَحُومُ حوله ما اختاره أحمد رحمه الله تعالى، فإِنه فرَّق بين القعود الطارىء والأصلي، بناءً على أن الإِفراطَ في التعظيم، والتشبُّهَ بالأعاجم، إنما هو في الثاني دون الأول. وعُلِمَ من هذا التقرير: أنه لم يَعَمَلْ بإطلاق الحديث أحدٌ منهم، ثم لو سلَّمنا، فهذا الفرق إنما ذَكَرَه الرَّاوي في صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وما الدليل على أن الصحابةَ رضي الله عنهم أيضًا كانوا مُفْتَرِضِين في اليوم الثاني؟ فجاز أن تكون صلاتُهم على أنها نافلةٌ، بل هو الظاهر، لأن المسجدَ لم يَخْلُ عن الجماعة في هذه الأيام، وهؤلاء لم يَكُونُوا ليتركوا صلاة الجماعة في المسجد، وإنما جاؤوا للعِيَادة، واتَّفَقَ أن وَجَدُوه يَصَلِّي سُبْحَةً أو مكتوبةً، فاقتدوا به على أنها نافلةٌ لهم، والقُعُود في مثلها مطلوبٌ تحصيلا للمشاكلة، وإنما الكلام فيما إذا صلُّوْها فريضةً، وليس في الحديث. والجواب الثالث: أن الحديثَ لو دَلَّ على وُجُوب القُعُود، وحُرْمة القيام خَلْفَ القاعد لقوله صلى الله عليه وسلّم «إذا صلَّى قاعدًا»... الخ، لدَّل على وُجُوب القيام، وحُرْمة القُعُود خَلْفَ الإِمام القائم لقرينةٍ، وهي قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا صلَّى قائمًا...» الخ، مع أنه لم يَذْهَبْ إليه أحدٌ. والأصل: أنّ حال المُنْفَرِد مُنْحَصِرٌ في صورتين، وهما: العقودُ والقيام؛ بخلاف حال المصلِّي مع الإِمام، فإنها أربعةٌ ذَكَرَ منها في الحديث اثنان وبقي اثنان وهما: القعود خلف القائم، والقيامُ خلف القاعد فمن تمسَّك به غَفَلَ عن هذين، وقاس حاله مع إمامه على حاله في الانفراد. وهذا يَدُلُّك ثانيًا على أن الحديث لم يَرِدْ إلاّ في طلب المشاكلة، وهو بالقيام خَلْفَ القائم، والقُعُود خَلْفَ القاعد. بقيت صورة الاختلاف، فلم يتعرَّض لها في الحديث، فليَكِلْهُمَا إلى اجتهاد الأئمة، أو إلى حديثٍ آخر، وإلاّ لَزِمَ عدم جواز القُعُود خَلْفَ القائم أيضًا بعين هذا الحديث. والجواب الرابع: أن الحديث ينبني على فرضٍ ذهني وحكمٍ معهودٍ عند الشارع، وهو: أن القاعد لا يُصَلِّي بالناس في المسجد، والمفترِض القادر لا يُصَلِّي في البيت، وحينئذٍ لا يكون قوله: «وإذا صلَّى قائمًا...» الخ إلاّ في حقِّ الفرائض. فإِن قوله هذا، وإن كان عامًا في الظاهر، إلا أنه مقصورٌ على المكتوبات بالنظر إلى هذا الفرض، لأن صلاة الإِمام قائمًا في المسجد لا تكون إلا فريضةً. وكذا قوله: «وإذا صلَّى قاعدًا» الخ، وإن وَرَدَ عامًّا، لكنه على الفرض المذكور لم يَرِدْ إلا في النافلة، لأنه إذا فَرَضْنَاه قاعدًا، فلا يكون في المسجد، بل في البيت، ولا يكون فيه إلا النَافلة، أو فريضة المنفرِد. فهاتان القضيتان وإن كانتا كُلِّيَّتَيْنِ لفظًا لكنهما مَخصُوصَتَان معنى، وكثيرًا ما يَرِدُ الكلامُ على فرضٍ ذهني، ثم إذا عُرِّيَ عن تلك القرائن المُحْتَفَّة والمعهودة بين المخاطَب والمتكلِّم أورث مثل هذه قلقًا، أَلا تَرَى إلى شاكلة أحاديث تنصيف الأجر وَرَدَت بدون تفصيلٍ بين الفرض والنفل، ففي الصِّحَاح عن عِمْرَان بن حُصَيْن مرفوعًا قال: «من صلَّى قائمًا فهو أفضل ومن صلاها قاعدًا، فله نصف أجر القائم. ومن صلاها نائمًا فله نصف أجر القاعد». ا ه. وكذلك ليس في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران: 191) الخ... ولا في قوله: {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (النساء: 103) تفصيلٌ بين الفرض والنفل. فلو تعرَّض في واقعة السقوط إلى هذا التفصيل لفَاتَ ذلك الوضع. فإِذا مَشَى في أحاديث تنصيف الأجر على شاكلة الإِبهام مَشَى عليها في أحاديث السُّقُوط أيضًا، ولم يتعرَّض فيها إلى القيام: أنه متى يَجِبُ ومتى لا يَجِبُ؟ وكذا إلى القُعُود أنه متى يُجُوزُ ومتى لا يَجُوزُ؟ بل تركهما على ما عُهِد من شأنهما في الخارج نعم إذا وَقَعَ التميُّزُ في الخارج، وخرجت الأقسام، فصار بعضُها فريضةً وبعضٌ آخر نافلةً، خَرَجَ بنفسه: أن القيام في الفرض لا يَسْقُطُ بخلافه في النافلة. ثم إنك لو نَظَرْت إلى عادتهم في الخارج، ما كانت؟ لعَلِمْتَ أن الحديثَ مقصورٌ بجزأَيه على النافلة، لأنهم كانوا مَشْغُوفِين بالاقتداء خلفه صلى الله عليه وسلّم أينما وجدوه يُصَلِّي، وإنما كانوا يَفْعَلُون ذلك من أنفسهم بدون ترغيب منه، كما فعلوه في صلاة الليل، فاقتدوا به، حتى قال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «خَشِيتُ أن تُكْتَبَ عليكم» فصلاتُهم هذه ما كانت لإِسقاط الفريضة، ولم تكن تُدْعَى لها، ولكنهم كانوا يَدْخُلُون فيها تحصيلا للبركة، وإحرازًا للأجر، وتوفيرًا للثواب، ونَيْلا لشرف الاقتداء بخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وهو الذي فَعَلُوه في واقعة السقوط. وحينئذٍ مخاطبة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم إياهم بهذا الحديث لا يتتناول إلا الصلوات النافلة التي عَلِمَ الدخول فيها من أحوالهم، فهو إذن في حقِّ الصلاة التي لا يُدْعَى لها الناس، وهي النافلة، ولا رَيْبَ أنه يتحمَّل فيها القُعُود من القدرة على القيام. وفي فِقْهِنَا أيضًا: أن الإمام إن صلَّى التراويح قاعدًا، فللقوم أن يَقْعُدُوا أيضًا تحصيلا للمشاكلة. فمعنى قوله: «وإذا صلَّى جالسًا، فصلُّوا جلوسًا»، أي: في الصلاة التي عَرِفْتُ من عادتكم الاقتداء فيها. نعم، إذا غَفَلَ عن عادتهم تلك في الخارج، سَرَى إلى الوهم أنه عامٌّ في أنواع الصلوات كلِّها. وأمَّا وَجْهُ التفصِّي عن إشارته، فَيَنْكَشِفُ بعد المراجعة إلى ما أَخْرَجَه أبو داود في الأذان، في حديثٍ طويلٍ من أحوال الصلاة، وفيه قال ابن أبي ليلى: وحدَّثنا أصحابنا قال: «كان الرجل إذا جاء يسأل، فيُخْبِرُ بما سَبَقَ من صلاته، وأنهم قَامُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من بين قائمٍ وراكعٍ وقاعدٍ ومصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ... حتى جاء مُعاذ رضي الله عنه، قال: فقال معاذ: لا أراه على حالٍ إلا كُنْتُ عليه، قال: فقال: إن مُعَاذًا قد سَنَّ لكم سنةً، كذلك فافعلوا». ا ه. مختصرًا بدون تغيير في اللفظ. وله مُتَابِعٌ عند الطبراني، وفي إسناده عُبَيْدُ الله بن زَحْر، ورأيُ البخاري رحمه الله تعالى حسنٌ في حقِّه. ثم وَجَدْتُ له مُتَابِعَيْن آخرين أيضًا، وظاهره: أن الناس كانوا يَدْخُلُون في الجماعات، فَيُصَلُّون أولا لأنفسهم ما فَاتَهم من صلاة إمامهم، حتى إذا قَضَوْه اتبعوه فيما بقي، واشتركوا معه في الأفعال حتى جاء مُعَاذ رضي الله عنه، فدخل أولا فيما كان الإِمامُ يصلِّيه، ثم اشتغل بأداء ما فاته من صلاته كما هو شاكلة القضاء اليوم. وأنت تَعْلَمُ أنهم لا بُدَّ لهم في هذه الصورة أن يَخْتَلِفُوا على إمامهم، فيكون أحدهم قاعدًا مع قيام إمامه، وقائمًا مع قعود إمامه، وهو الذي يقوله الراوي «من بين قائمٍ وراكعٍ وقاعدٍ»... الخ، فيُشِيرُ إلى هذه الاختلافات على إمامهم. فلعلَّ هؤلاء الذين دَخَلُوا في صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في مَشْرُبَتِه، واقتدوا به عَمِلُوا بهذه السنة، وقد كانت نُسِخَت، فدلَّهم على أنه يجب مع الإِمام ائتمامه، لا الاختلاف عليه، فعليكم أن تَعْمَلُوا بسنة مُعَاذ رضي الله عنه، وهو: القضاء فيما بَعْدُ لئلا يُوجب الاختلاف على الإِمام، فأشار إليهم بالجلوس لذلك. وعليه فليُحْمَل قوله: «وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا»، أي لا تُشْغِلُوا أنفسكم بقضاء ما فات أولا، ليلزم عليكم القيام عند جلوسه، والجلوس عند قيامه، ولكن صَلُّوا أولا بصلاة الإِمام فصَلُّوا جلوسًا إذا صلَّى جالسًا، وكذا في القيام. وإليه يشير ما عند الترمذي في باب ما يذكر في الرجل يُدْرِكُ الإِمامَ ساجدًا، كيف يصنع عن مُعَاذ رضي الله عنه مرفوعًا: «إذا أتى أحدُكم الصلاةَ والإِمامُ على حالٍ، فليَصْنَعْ كما يَصْنَعُ الإِمامُ». ا ه. يريد أن المسبوقَ ينبغي له أن يَتْبَع إمامَه في الأول، ولا يَشْتَغِلَ بقضاء أول صلاته، وليَصْنَعْ كما يَصْنَعُ إمامَه. وكذلك ما عند أبي داود، في باب الرجل يُدْرِكُ الإِمامَ ساجدًا... الخ، عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه مرفوعًا: «إذا جِئْتُم إلى الصلاة ونحن سجودٌ فاسجدوا ولا تَعُدُّوها شيئًا...» الخ. ثم ليمعن النظر أنه ما الفرق بين القُعُود عن القيام، وبين القُعُود للتشهُّد؟ فإن قلتُ: إنه بوضع اليدين على السُّرَّة في الأول، وعلى الفخذين في الثاني. قلتُ: هو مسألةٌ اجتهاديةٌ اختارها أبو حنيفة رحمه الله تعالى، ولا تصريحَ لها في الحديث مع أنه يترشَّح من بعض عبارات فقهائنا أنه لا فَرْق بينهما، وحينئذٍ يَلْتَبِسُ الأول والثاني، ولا يتميَّز أحدهما عن الآخر أصلا. وعلى هذا يُمْكِن أن يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في القَعْدَة للتشهُّد. وهم فَهِمُوا أنه في القَعْدَة بدل القيام، فَقَامُوا. وأنت تعلم أنه لا سبيلَ حينئذٍ إلى علمه إلا بالتعليم، فأشار إليهم أن اجلسوا، ليَعْلَمُوا أنه في القَعْدَة للتشهُّد، لا لأن فرض القيام سَقَطَ عنهم بالاقتداء. ولا يُقَال يمكن أن يكون سقوطُ القيام عن ذمَّة المقتدي كسقوط فرض القراءة عندكم، لأنا نقول: كلا، فإن القراءةَ خلف القارىء مُنَازَعةٌ، والقيامَ خلف القائم مُوَافَقةٌ. والوجه: أن القراءةَ يتحمَّلها الإمام عن المقتدي، وتُحْتَسَبُ قراءتُه عن قراءتِه، بخلاف الأفعال من القيام والقعود وسائر الأذكار فإن الإمام لا يتحمَّلها عن المقتدي، وكلٌّ فيها أميرُ نفسه، فلا تتأدّى إلا بفعله ومن ههنا تبيَّن وجه التفصِّي عن إشارته بالقُعُود أيضًا. 732- قوله: (ربَّنَا ولك الحمدُ) وقد وَرَدَت صيغة التحميد بأربعة أنحاءٍ. بذكر اللهم وعدمه، وكذا بذكر الواو وحذفها. ولطف الصيغة التي فيها الواو أنها تدلُّ على أن لربنا شيءٌ آخر أيضًا، كما أن له الحمد، وإنما حَذَفَه لِيَذْهَبَ ذهنُ السامع كل مَذْهَبٍ ممكنٍ. وراجع لنكتة الحمد في القَوْمة ما عند مسلم في باب الشفاعة من سجود النبيِّ صلى الله عليه وسلّم والاستئذان لها، وفيه ثلاثةَ ألفاظ: في لفظٍ: «أنه يَحْمَدُه أولا، ثم يَقَعُ ساجدًا». وفي لفظٍ «أنه يَحْمَدُه ساجدًا». وفي لفظٍ «أنه يَسْجُدُ له ثم يَحْمَدُه». وقد وَرَدَت كلُّها في المقام المحمود. وظَهَرَ لي أن الوجهَ هو الأول، والباقي من تصرُّفات الرواة، فإِنه يَحْمَدُه أولا، ثم يَخِرُّ ساجدًا، وهذه الحقيقة من تقديم الحمد على السجود سَرَت في الصلاة، فقدَّم الحمد في القَوْمة على السجود لهذا. ولفظ مسلم يقتضي أن السجودَ من خصائص الحَضَرَة الربانية، فحيثما تحقَّقت الرؤية ثَبَتَ السجود هناك، كما في ليلة المِعْرَاج إذا تجلَّى له ربُّه خَرَّ ساجدًا هناك كالثوب البالي. والله أعلى وأجلَّ ولعله بَدَأ بمثله في الشفاعة، فافتتح باب الشفاعة بالتحميد، ثم سَجَدَ ولعلَّ الحمد في القَوْمة ليتدارك المسبوقُ ما فاته من الحمد، كما ذكره في «الفتح» للقنوت، ثم رأيته في البجيرمي عن البرماوي. فهو لإِدراك الذكر فقط، ولو كان أُنْمُوذَجًا من القيام لأدرك الركعة بإِدراكه، وليس كذلك. ثم المشهور عن إمامنا رحمه الله تعالى التقسيم في التسميع والتحميد بين الإِمام والمقتدي، وهو المذكور في عامة الروايات وعنه: الجمع للإِمام، وهو عند البخاري. وعند الشافعيِّ رحمه الله تعالى: التسميع للمقتدي أيضًا، ولم يذهب إليه أحدٌ من غير ابن سيرين على ما أعلم، والله تعالى أعلم.
قال الحافظ رضي الله عنه: قد وَرَدَ الرفعُ في الأحاديث قبل التكبير وبعده ومعه، واختار الأول صاحب «الهداية» منا فَيَرْفَعُ يديه أولا، ثم يكبِّر. أمَّا الثاني، أي التكبير، ثم الرفع فلم يَذْهَبْ إليه أحدٌ من السلف وإن وَرَدَ في الحديث. قلتُ: إن الصور عندي اثنتان فقط: قبله ومعه. أما الثاني، فهو من تصرُّف الرواة، وليس من السنة في شيءٍ، فإنه قد تبيَّن لي بعد السَّبْر أن الرفعَ بعد انقضاء التكبير لغوٌ، فلو كَبَّرَ حتى فَرَغَ عنه لا يأتي بالرفع أصلا، كذا في الزَّيْلَعِي «شرح الكنز»، وصرَّح به الشافعيُّ رحمه الله تعالى في «الأم» وكذا في «المغني» فَلَزِمَ منه أن الرفعَ للتكبير، فإذا خَتَمَ الكبير، فَاتَ محل الرفع. وذلك لأني سَبَرْت الشرعَ، فرأيتُ أن لا رفعَ عند القيام إلى الثانية والثالثة، مع أن الأظهرَ أن يكونَ الرفعُ فيهما أيضًا، كما كان في الأولى، ولكنه لم يُنْقَل عنه الرفع في هاتين، وذلك لانقضاء التكبير فيهما في الارتفاع، وتمامه إلى القيام، وحينئذٍ لو رَفَعَ لكان بعد التكبير، فلو كان الرفعُ عند الشارع بعده أيضًا لوضعه في قيام الثانية والثالثة البتَّة، كما كان وضعه في قيام الأولى. فَعلِمْتُ منه أن مَرْضِيَّ الشارع تركُ الرفع بعد التكبير، فَقَصَرْتُ على الصورتين فقط، وإن كانت الألفاظ تحتمل الثالثة أيضًا. 735- قوله: (كان يَرْفع يديه)... الخ والشافعية يَزْعُمُون أنه أصرحُ حُجَّةً لهم قلتُ بل هو يَضُرُّهم من طَرَفٍ آخر، ويترشَّح منه ما يخالفهم، فإِن كنتَ فَطِنًا تَعْرفُ مظانَّ الكلام، ففكِّر أن ابن عمر رضي الله عنه، لِمَ خَصَّصَ الرفع من بين سائر صفات الصلاة؟ وَلِمَ نَّوه بذكره واهتمَّ بأمره؟ يدُلُّك على خمُولِه في زمنه. ولذا لم يتوجَّه إلا إلى الرفع خاصةً، ولعلَّه رأى فيه تركًا فأراد إحياء الرفع، ورمي التاركين بالحصى، ولو لم يكن هناك تاركون، فمَنْ ذا الذي كان يَرْمِيهم؟ نعم، لو كان في طريق من طُرُق روايته ذكرٌ لصفاتٍ أخرى أيضًا لحَمَلْنَاه على الاختصاص فقط، إلا أنه لمَّا لم يتعرَّض إلا إلى هذا الجزء خاصةً، عَلِمْنَا فيه خُمُولا في زمانه، بحيث احتاج إلى الاستدلال والتفصيل. ولو كان الرفع فاشيًا ولم يكن هناك تاركٌ كما زَعَمُوه فأيُّ حاجةٍ دَعَتْهُ إلى اهتمامه أي اهتمام؟ 235- قوله: (وإذا كبَّر للرُّكوع). قال الشافعية: يبدأ الرفع مع التكبير، ثم يمُدّه حتى يملأَ به الانحناء. قلتُ: وفيه عُسْرٌ لا يخفى، ثم رأيت في «شرح الإحياء». من التنبيه ذكر أن الرفع مع الانحناء مُتَعَسِّرٌ أو مُتَعَذِّرٌ فإِن كان لا بُدَّ له من الرفع عند الركوع، فالأولى أن يَرْفَعَ أولا، ثم يُكبِّرَ وينحني، ولا ينبغي أن يمشي على ظاهر شاكلة الألفاظ، فإِنها تَدُلُّ على أنه كان يرفع بعد انقضاء التكبير، وهكذا ما اختاره الشافعية رحمهم الله تعالى في الرفع من الركوع من أنه يرفعهما حين الارتفاع أيضًا غَلَطٌ، بل يرفعهما حين يَنْتَصِبُ قائمًا. وفي كتاب «المسائل» لأبي داود عن أحمد رحمهما الله تعالى: أنه رآه يرفع يديه حين انتصبَ قائمًا. والسِّرُّ في ذلك أنهم فَهِمُوا هذا الرفع للانتصاب، فوضعوه في الارتفاع ليكونَ قبله، مع أنه للذهاب إلى السُّجُود، وحينئذٍ نَاسَبَ أن يكونَ في الانتصاب. وبالجملة إن الرفعَ إن كان في نظر الشارع، فهو في الابتداء: إما في ابتداء الركعة الأولى للافتتاح، أو ابتداء الركوع، أو عند ابتداء السجدة، أو بين السجدتين، والأخيرُ قليلٌ جدًا مع ثبوت ترك الأَوَّلَيْن أيضًا، وكان به اعتناءٌ للصغار دون الكبار، فإِنَّهم كانوا يتركونه أيضًا. أمَّا كَثْرَةُ العمل، فلم تتبيَّن بعدُ، وإن صَرَّح ابن رُشْدٍ في «بداية المجتهد»: أن مالكًا في رواية ابن القاسم اختار الترك من أجل التعامل. 735- قوله: (وكان لا يفعلُ ذلك في السُّجُود)، والشافعية جَعَلُوه دليلا على ترك الرفع في السُّجُود. قلتُ: بل تعرُّضه إلى النفي في السُّجُود دليلٌ على أنه كان هناك الرافعون في السُّجُود أيضًا، فأراد إخماله بذكر نحو من الاستدلال. والآن كيف ترى الحال في حديث ابن عمر رضي الله عنه، فإِنه يريد نفي الرفع في السُّجُود، ويترشَّحُ منه الإيجاب، ويريد إيجابه في الموضعين ويترشَّحُ منه النفي فيهما، وهذا كما قيل: إن في مِضَ لَمَطْمَعًا. ثم إن حديث مالك بن الحُوَيْرِث عند النَّسائي: «أنه رَأَى النبيَّ صلى الله عليه وسلّم رَفَعَ يديه في صلاته، وإذا رَكَعَ، وإذا رَفَعَ رأسَه من الركوع، وإذا سَجَدَ، وإذا رَفَعَ رأسَه من السجود، حتى يحاذي بهما فروع أذنيه»، ا ه. لم أر أحدًا شَرَحَه، وقد مرَّ عليه ابن القيم في «الهدي»، والحافظ في «الفتح» والعجبُ أنهم يستدلُّون منه ولا يَشْرَحُونه أصلا، فإن ظاهره تعدُّد الرفع في القَوْمة، ففيه الرفع أربع مراتٍ: عند الركوع، وعند الرفع منه وهو في الانتصاب على ما مرَّ، وعند السجود وهو أيضًا في الانتصاب، وعند الرفع منه والذي يَظْهَرُ أنه أراد به ما بين الأمور الأربعة، فهي ثلاث: عند الركوع، وعند الرفع منه، وبين السجدتين، وإنما أَرادَ أنَّ الرفعَ في القَوْمة للمعنيين، فهو رفعٌ واحدٌ للرفع من الركوع وللسجود معًا. فَأَوْهَمَت عبارته بتعدُّد الرفع، ولم يكن مُرَادًا أصلا، ولذا لم يذكره في الرواية الثانية من النَّسائي، فانكشف أنه إيهامٌ لفظي فقط. ولم يَثْبُت تعدُّد الرفع في القَوْمة عن أحدٍ من السلف، وكل لفظٍ لم يُوجَد مِصْدَاقه مع وفور العمل في الخارج، فهو إيهامٌ تعبيريٌّ لا غير. وبعكسه، إن العمل إذا ثَبَتَ بأمر في الخارج، وتبيَّن مِصْدَاقه، فهو سنةٌ ثابتةٌ لا يمكن رفعها ونفيها من أحدٍ، ولو أَجْلَبَ عليه بَرِجِلِهِ وَخَيْلِهِ، فلا يتمكَّن أحدٌ على نفي الترك رأسًا، كما لا يتمكَّن على إثبات تعدُّد الرفع في القَوْمة نظرًا إلى الألفاظ فقط ما لم يتبيَّن العمل به في الخارج. فالتوارثُ والتعاملُ هو معظم الدين، وقد أرى كثيرًا منهم يتَّبِعُون الأسانيدَ ويتغافلون عن التعامل، ولولا ذلك لَمَا وَجَدْتُ أحدًا منهم يُنْكِرُ ترك الرفع، ولكن الله يفعل ما يشاء. ويَتَبَادَرُ من كلام الشارحين أن في ذهنهم تعدُّد الرفع في القَوْمة في هذا الحديث، وحنيئذٍ لا بُدَّ للعمل به من بيان صورة، ولكنه لم يتوجَّه أحدٌ منهم إلى أنه ماذا تكون صورة العمل به في الخارج أمَّا أنا فقد أن الرفعَ فيها واحدٌ بالعدد، فهل ثَمَّ داعٍ أو مجيبٍ إذن. وكذلك في الباب حديث عند ابن ماجة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يرفعُ يديه عند كل تكبيرة»... الخ، وأعلَّه كلُّهم، وما ذلك إلا لأنهم فَقَدُوا به العمل، ولم يستطيعوا أن يَعْمَلُوا بكلِّه، فاضْطَرُّوا إلى الإعلال. وتبيَّن لي شرحُه بعد مرور الأزمان وتقليب الأجفان: أن المراد من الرفع هو انتقال اليدين من مكانٍ إلى مكان، أي كانت يداه تنتقل من مكانٍ إلى مكانٍ عند كل تكبيرةٍ. فإن قلتَ: إن الرفع بهذا المعنى لا حاجة إلى ذكره، قلتُ: كلا بل أراد به الرَّاوي أن يفهرس الرفع، ومَنْ جنسه الرفع المختلف فيه وإن تغيَّرت شاكلته، واستفدتُ منه مهمةً أخرى وهي: أن شعارَ التكبير هو الرفعُ، فإذا كبَّر رَفَعَ، وحينئذٍ صار تعرُّضه إليه مهمًا جدًا، وراجع له «نيل الفرقدين» وفي التوراة لمَّا وَقَعَ الحَرْبُ بين موسى عليه الصلاة والسَّلام وبين العَمَالِقَة، لم يَزَلْ موسى عليه الصلاة والسَّلام داعيًا رافعًا يديه حتى كادت الشمس تَسْقُطُ، فَثَقُلَت يداه وسَقَطَت، فجاءه هارون عليه الصلاة والسَّلام، فأمسكها أن تسقط قبل الفتح. وبالجملة هذا الفهرس كفهرس عدد التكبيرات في بعض الأحاديث، وليس من البديهي المُسْتَغْنَى عنه.
والحديث وإن مرَّ من قبل أيضًا، لكنّ المصنِّف رحمه الله تعالى دَخَل الآن في المسألة المشهورة. وأعلم أن الأحاديثَ الصِّحاح في الرفع تَبْلُغُ إلى خمسة عشر، وإن سَلَكْنَا مَسْلَك الإغماض، فإلى ثلاثة وعشرين. ولنا: حديثُ ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا، ومرسلٌ آخر في «التخريج» للزَّيْلَعي فقد ثَبَتَ الأمران عندي ثُبُوتًا لا مردَّ له ولا خلاف إلا في الاختيار، وليس في الجواز. فما في «الكبير» شرح «المنية»، و«البدائع»: أنه مكروهٌ تحريمًا، متروكٌ عندي. نعم، إن كان عندهما نقلٌ من صاحب المذهب، فهما معذوران، وإلا فالقولُ بالكراهة في مسألةٍ متواترةٍ بين الصحابة رضي الله عنهم شديدٌ عندي. ثم تَتَبَّعْتُ الكُتُبَ للتصريح بالجواز فوجدتُ أبا بكرٍ الجَصَّاص قد صَرَّحَ في «أحكام القرآن» تحت قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ} (البقرة: 183) أن المسألة إذا وَرَدَت فيها الأحاديثُ والصِّحَاحُ من الجانبين، فالخلاف فيها لا يكون إلا في الاختيار لا سِيَّما إذا كانت كثيرةَ الوقوع، وعدَّ منها: الترجيعَ في الأذان، وإفرادَ الإِقامة، والجَهْرَ بالتسمية، ورَفْعَ اليدين، وحينئذٍ فاسْتَرَحْتُ حيث تخلَّصت رقبتي من الأحاديث الثابتة في الرفع. والجَصَّاص من القرن الرابع، حتى إن الكَرْخِي الذي هو من مُعَاصِري الطَّحَاوي من تلامذته، فرُتْبَتُهُ أعلى من الكبيري و«البدائع»، وصاحب «البدائع» أرفع رُتْبَةً من الكبيري. وقد اشتهر في مُتَأَخِّري الحنفية القول بالنسخ، وإنما تعلَّمُوه من الشيخ ابن الهُمَام، والشيخ اختاره تَبَعًا للطَّحَاوِيِّ. وقد عَلِمْتَ أن نسخَ الطَّحَاوِيِّ أعمُّ ممَّا في الكُتُب، فإِن المفضولَ بالنسبة إلى الفاضل، والأضعفَ دليلا بالنسبة إلى أقواه، كلُّه منسوخٌ عنده، كما يتضح ذلك لمن يُطَالِعُ كتابَه، كيفما كان إذا ثَبَتَ عندي القول بالجواز ممَّن هو أقدم في الحنفية، وسَاعَدَتْهُ الأحاديث أيضًا، فلا محيد إلا بالقول به، وخلافه لا يُسْمَع، فمن شاء فلْيَسْمَعْ. 736- قوله: (إذا رَفَع رأسه من الركوع)، وفي «الفتح»: «أنه حين الرفع»، وقد مرَّ مني أنه في الانتصاب دون الانتقال، وهو الصواب، وخلافُه خلاف الحديث وخلاف إمامهم، وعليه فرَّع الشافعيُّ رحمه الله تعالى مذهبه، فاختاره في الموضعين وتَرَكَهُ بين السجدتين، وإن اختار محدِّثوهم بعد القعدة الأولى أيضًا. 736- قوله: (ويقول: سَمِعَ اللَّهُ لمن حَمِدَه) وقد مرَّ أنه يَرْفَعُ بعد التحميد، ولا يَرْفَعُ مع التحميد. واعلم أنه تكلَّم السلفُ في معنى رفع اليدين وما قُصِدَ به. ففي «المجموع» شرح «المهذب»: أن الشافعيَّ صلَّى عند محمد بن الحسن رحمه الله تعالى فَرَفَعَ، فسأله عنه، فقال: تعظيمًا لله. وعن ابن عمر رضي الله عنه: إنه زينةُ الصلاة. وعلى هذا تكرُّره في الصلاة مُوجِبٌ لإحراز الثواب، وازدياد الزينة. وفي «فتح القدير» من الجنائز، عن أبي يوسف رحمه الله تعالى: إنه للافتتاح لكونه هيئةَ الدخول في الصلاة، فلا يكون إلا مرةً. ومن ههنا تبيَّن أنه لا يُسْتَبْعَدُ أن يكونَ الاجتهادُ سَرَى في اختيار الرفع، فمن جعله تعظيمًا لله أو زينةً للصلاة أحبَّ تكثيره، ومن رآه للافتتاح قَصَرَه عليه. ولعلَّ مِلْحَظ الحنفية أن رفعَ اليدين للتحريم فعلا كتحويل الوجه عند التسليم للتحليل فعلا، فينبغي أن يكونَ مرةً فقط كالتسليم. أو للاستقبال والإِقبال على الله والتوجيه إليه، وحينئذٍ نَاسَبَ أن يكونَ في الابتداء فقط، فإِن الآدابَ عند اللقاء لا تتكرر. ثم حرَّرتُ أنه يقوم مقام المصافحة، كما في حديث الحجر الأسود وهو يمينُ الله، واستلامُه يقومُ مقام المصافحة. أمَّا السلامُ في الصلاة، فهو تحيَّةُ الوَدَاع. وكان يُسَلَّم أولا: «السلامُ على من قِبَل عباده» فعلَّمهم النبيُّ صلى الله عليه وسلّم مكانه: «السلامُ عليكم ورحمةُ الله». ثم إن قوله صلى الله عليه وسلّم تحريمها التكبير... الخ معناه أن التكبيرَ شيءٌ يَحْصُل به الدخول في الصلاة، والتسليمُ شيءٌ يَخْرُج به عن الصلاة، فوضع في التسليم هيئةً تَصْلُح للانصراف، فناسب في وِزَانِهِ أن تكونَ عند الدخول أيضًا هيئةٌ تُؤْذِنُ بالإِقبال على الله، فوضع رفعَ الأيدي مستقبلا إياه. وحينئذٍ تحصَّل أنه للإِقبال دون التعظيم، وإن كان الإِقبالُ أيضًا تعظيمًا، فهو ضمنيٌّ. بل كل فعلٍ في الصلاة، ففيه نوعُ تعظيمٍ، وإنما الكلامُ فيما قُصِدَ به، لا ما تضمَّنه سواء قُصِدَ به أو لا. ثم تبيَّن لي في حكمته أنه من سنة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال: {هَذَآ أَكْبَرُ} (الأنعام: 78) ولعلَّه يكون رفع إذ ذاك أيضًا، فأصلح الشريعة. قوله: (وأقام الله أكبر مقامه)، ثم سَبَرْتُ الشريعةَ، فوجدت أنه يُقَال عند رؤية الهلال: الله أكبر، وفي الحديث: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان إذا رأى الهلال قال: الله أكبر، وصَرَفَ وجهه عنه»، والصرفُ لئلا يتوهم أن التكبيرَ للهلال. وفي «تاريخ الخميس»- ومصنِّفه شافعي المذهب- عند ذكر إبراهيم عليه السلام: إن الرفعَ في المواضع الثلاثة كان من ملَّته، ثم تتبعتُه حتى وجدتُ في «تفسير الشاه عبد العزيز» أن رفعَ اليدين من ملَّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. والذي يَظْهَرُ أن ما هو من دِينِهِ هو الرفعُ فقط، أمَّا حَمْلُه على المواضع الثلاثة فمشى على مذهبه، أو تمشيةً له، فالتكبيرُ عندي للإقبال على الله وقوله: «إني وَجَّهْتُ وجهي للذي..» الخ للإِخلاص، ولذا اختار أبو يوسف رحمه الله تعالى دعاءَ التوجيه في الصلاة. والتكبيرُ: أيضًا يَعْمَلُ عملَ التوجيه، فهو لجعل الشيء لله فإِن المشركين كانوا يُهِلُّون بأسماء طواغيتهم لذلك ولذا يكبِّر عند الذبح. ولعلَّه في أذان المولود، وعند صلاة الجِنَازة أيضًا لهذا. فصار على نَقَاضَةِ الإِهلال لغير الله فهذه أنظارٌ ومعانٍ لا يُنَاقِضُ بعضُها بعضًا، فراعها تُعينك في العمل برفع اليدين وتركه والله تعالى أعلم. 737- قوله: (إذا صلّى كبَّر ورَفَعَ يَدَيْه) وفي «صحيح مسلم» «ثم رفع يديه»، وحَمَلَه الحافظُ على صورتين مُتَغَايِرَتَيْن وقد مرَّ مني أنه لا ينبغي أخذ الصور من تعبيرات الرُّوَاة فقط، بل الأمر كما حقَّقه الشافعيُّ رحمه الله تعالى. ثم هذا حديث مالك بن الحُوَيْرِث بالبَصْرَة، وحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه بالمدينة. أمَّا في مكة، فلم يُنْقَلِ الرفع إلا عن صغارهم، وأمَّا أهل الكوفة، فحديثُهم الترك.
فعندنا يَرْفَعُ حِذَاء أُذُنيه، والمشهور عند الشافعية رحمهم الله تعالى حِذَاء مَنْكِبيه. ووردت الأحاديث بالأنواع كلِّها، ورُوي عن الشافعيِّ نفسه رحمه الله تعالى أنه وفَّق بينها: أن يرفَعَ يديه، بأن تكون الكفان حِذَاء المَنْكِبين، والإِبهامان والأصابع حِذَاء شحمتي الأُذُنين وفروع الأُذُنين. وهذا يَدُلُّ على أنه لا خِلافَ فيه بيننا وبين الشافعيِّ رحمه الله تعالى، ومع ذلك لم يَزَلِ الخلافُ يُنْقَلُ فيه. أقول: إنها صورٌ مختلفةٌ، فتارةً كذا وتارةً كذا، وكلُّ واسعٌ، والخلاف في الأولوية. 738- قوله: (وقال: رَبَّنَا ولك الحمدُ)، وهذه الرواية تَدُلُّ على الجمع بين التسميع والتحميد للإِمام، وعامةُ الروايات على التقسيم، وقد مرَّ. ثم أقول: إن تحميدَ المقتدي في جواب تسميع الإِمام عندي، فلا يقوله إلا في حال الانتصاب، ولا يقوله في الحركة الانتقالية. وعند الشافعية يجمع المقتدي بين التسميع والتحميد أيضًا. قلتُ: وليس له أثرٌ في الأحاديث، ولا عَمِلَ به أحدٌ من السلف غير ابن سيريِن.
اختار الرفعَ بعد القَعْدة الأولى عند الانتصاب أيضًا، وهو أحدُ الوُجُوه عند الشافعية رحمهم الله تعالى، ونفاه الشافعيُّ رحمه الله تعالى. 739- قوله: (رواه حمَّاد بن سَلَمَة)... الخ، واعلم أنه اخْتُلِفَ في وقفه ورفعه، فأشار المصنِّف رحمه الله تعالى إلى رفعه، وذهب أبو داود إلى وقفه، حيث قال: الصحيحُ قول ابن عمر رضي الله عنه، وليس بمرفوعٍ.
والمختارُ عندنا أن يضعهما تحت السُّرَّة. والمشهورُ عن الشافعيِّ رحمه الله تعالى فوق السُّرَّة وتحت الصدر. وفي «الحاوي» رواية فوق الصدر أيضًا، وهو مؤوَّلٌ عندي كما سيجيء. وعن أحمد رحمه الله تعالى: إن الكلَّ واسعٌ. وذهب مالك إلى الإِرسال في المكتوبات، والوضع في النوافل في رواية القاسم عنه. ثم الوضع عنده تحت السُّرَّة كما نقله الوزير ابن هُبَيْرة في «الأشراف»، بل جعلها الرواية المشهورة عن مالك رحمه الله تعالى، ولم يَرِدْ للإِرسال عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم شيءٌ. نعم رُوِيَ ذلك عن بعض التابعين، كما في «المصنَّف» لابن أبي شَيْبَة. وأمَّا كيفية الوضع، فلم تَثْبُت فيها الأحاديث من الطرفين، ولا نصَّ فيه، والذي يُظَنُّ أنه كان عندهم على التخيير، وصرَّح ابن المنذر: إن الشرعَ لم يتعرَّض لهيئة الوضع، ولذا لم يَرِدْ في هذا الباب كثيرُ شيءٍ لا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولا عن الصحابة، غير أنَّ بعضَهم عَمِلَ كذا، وبعضَهم كذا، ولذا خيَّر فيه أحمد رحمه الله تعالى واختاره ابنُ جرير، وصرَّح الترمذيُّ أن كلَّ ذلك واسعٌ عندهم ا ه. وحاصله: أنه لا نصَّ فيه لأحدٍ، وإنما عُنيَ بالوضع عدم الإِرسال لا غير تحصيلا لهيئة الحِزَام بين يدي الملك. والوضعُ فوقها وتحتها كلُّها صورٌ غير مقصودةٍ على التعيين، وكان الشرعُ أرسله إلى طبائع الناس ليفعلوا فيه ما شاؤوا. ثم إنه وَقَعَ عند ابن خُزَيمَة في حديث وائل لفظ: «على الصدر» أيضًا، وهو معلولٌ عندي قطعًا، لأنه لم يَعْمَلْ به أحدٌ من السلف، ولا ذهب إليه أحدٌ من الأئمة، إلا ما وقع في كتاب «الأنوار» للأَرْدَبِيلي. وفي عامة كُتُب الشافعية: فوق السرة وتحت الصدر، قال ابن حَجَر المكي في «شرح المشكاة» إن معناه قريبٌ من الصدر، ولعلَّ هذا هو مَحْمَل كلام «الحاوي» أيضًا. ومرّ عليه ابن القيم في «إعلام الموقِّعين»- وقال: إن الحديثَ رواه ابن خُزَيْمة وجماعةٌ، مع أنه لم يروه غير ابن خُزَيْمة، اللهم إلا أن يكون مراده منه أصل الحديث بدون هذا اللفظ. ثم عند البزَّار في هذه الرواية: عند الصدر، وفي «المصنَّف» لابن أبي شيبة: تحت السُّرَّة، فاضْطَربت الروايةُ جدًا. وأول من نبَّه على تلك الزيادة الأخيرة العلامة القاسم بن قُطْلُوبُغَا. ثم إن لفظ: «تحت السُّرَّة» لم يوجد في بعض نسخه، فظنَّ المُلاّ حياة السِّنْدِهي أنه وَقَعَ فيه سقطٌ وحذفٌ، ثم صار متن الأثر مرفوعًا. قلتُ: ولا عجبَ أن يكون كذلك، فإِني راجعت ثلاث نَسُخ «للمصنف»، فما وجدته في واحدةٍ منها. والحاصل أن رواية وائل رواها غيرُ واحدٍ، ولم يَرْوِها أحدٌ على لفظ ابن خُزَيْمَة، وإنما زادها راوٍ بعد مرور الزمان، فهو ساقطٌ قطعًا، فلا يجمد عليها مع فقدان العمل به. ثم إن الشيءَ قد يكون مسمَّى، ولا يكون مدارًا للعمل. قال تعالى: {إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} (سبأ: 46) ومعلوم أنه لم يذهب أحدٌ إلى أن المأمورَ به هو القيام كذلك، بل معناه منفردًا أو جماعةً. وحينئذٍ لو سلَّمنا تلك الزيادة لم يَلْزَم كون المراد به الوضع على الصدر، بل المراد ما ذكرنا أي الوضع على خلاف الإِرسال.
هو مستحبٌّ مع أنه لا بدَّ منه، بل هو الروح، فدلَّ على أن الشيءَ قد يكون مما لا بدَّ منه، ثم لا يكون واجبًا، وذهب الغزالي رحمه الله تعالى إلى أنه فرضٌ. قلتُ: وذلك يُنَاسِبُ منصبه لا منصب الفقهاء؛ لأنه يُوجِب أن لا تَصِحَّ صلوات المسلمين عامة. 742- قوله: (وإِني لأَرَاكُمْ)... إلخ، وكانت رؤيته من وراء الظهر معجزةً منه، كذا نُقِلَ عن أحمد رحمه الله تعالى، وَثَبَتَ الآن في الفلسفة الجديدة: أن القوة الباصرة في الأعضاء كلِّها. 742- قوله: (قال: أقيموا الركوع)... إلخ، وهذه قطعة من حديث مسيء الصلاة، وتدلُّ على أنه كان قَصَر فِي الركوع والسجود شيئًا، وقد وَقَعَ فيه لفظ الانتقاص عند الترمذيِّ، أي: «وما انْتَقَصْتَ انْتَقَصْتَ من صلاتك، فدلَّ على أن ترك التعديل لا يُوجِب البطلان بِلْ يُورِث النقصان، فلا يكون إلا واجبًا كما قلنا. ولا بِدَعَ في أن يكون الواجب عندنا، والفرض، والذي لا يكون شرطًا لصحة الصلاة عند الشافعية سواء، وحينئذٍ لا يبقى نِزَاعٌ في مرتبة الواجب، فإن الخلاف آل إلى التسمية. 742- قوله: (أَقِيمُوا الركوعَ)، وقد مرَّ الفرقُ بين اركعوا، وأقيموا الركوع. فالثاني أبلغ، لأنه يُسْتَعْمَلُ في موضعٍ لولاه لانعدم الشيءُ، فترجمة قوله: يقيمون الصلاة (بربا ركهتي هين نمازكوحتى كه اكرا به بربانه ركهتي تواو سكي هستي دهي جاتي).
المختارُ عندنا وعند الحنابلة: سبحانك اللهم وبحمدك... إلخ. وعبد مسلم: أن عمر رضي الله عنه جَهَرَ به مرةً في صلاته للتعليم. واختار الشافعيُّ ما عند البخاريِّ رحمهما الله تعالى: «اللهم باعد»... إلخ، وهو أولى بالنظر إلى قوة الإِسناد. وما اخترناه أحرى بالنظر إلى العمل. وسُئِلَ أحمد رحمه الله تعالى عنه، فقال: أَخْتَارُ ما اختاره عمر رضي الله عنه. واعلم أنه وقع الضررُ الكثيرُ بالاغترار بقوة الأسانيد والإغماض عن التعامل، مع أن الإسناد إنما كان لصيانة الدين فقط، لئلا يَدْخُل فيه ما ليس منه، فما درَسُوا به وما رَسُوا،حتى خفَّ التعامُلُ في نظرهم، مع أنه الفاصل في الباب عندي. ولا استفتاح عند مالك رحمه الله تعالى، ونقل عنه أبو بكر ابن العربي: أنه كان يَسْتَفْتِحُ بنفسه، ولا يأمر به الناس. قلت: وحينئذٍ صار حاصله الاستحباب عنده. واستدلَّ بقوله صلى الله عليه وسلّم «كانوا يَفْتَتِحُون الصلاةَ بالحمد لله رب العالمين». واستدلَّ منه الحنفيةُ على الإسرار بالتسمية، فأجاب عنه الشافعيةُ: أن الحمدَ لله اسم لتلك السورة، فمعناه أنهم كانوا يَفْتَتِحُون الصلاةَ بتلك السورة، والتسميةُ جزءٌ منها فلم يَثْبُت إسرارها. وأجاب عنه الحافظ الزَّيْلعِي: أن الآيةَ بتمامها ليست اسمًا للسورة، وإنما اسمها «الحمد» فقط. ثم إن التسميةَ سنةٌ عندنا في ظاهر الرواية، وواجبٌ في روايةٍ، ورجَّح الشيخ السيد محمود الآلُوسي وجوبها. 744- قوله: (يَسْكُتُ بين التكبير وبين القراءة إسْكَاتَةً)، واتفق الثلاثةُ على أن السكوتَ كان للاستفتاح، فجاء البيهقيُّ وتمسَّك منه على أن السكوتَ يُطْلَقُ على القراءة سِرًّا أيضًا. وحينئذٍ يجوز أن يكونَ الأمرُ بالإنصات محمولا على القراءة سِرًّا. قُلْتُ: لَمْ يُطْلَقْ السكوتُ ههنا على القراءة سِرًّا كما فُهِمَ، بلْ مراده من السكوت: هو سكوته عن التكبير، فهو باعتبار ما قبله لا ما بعده. وهذا على نحوِ ما يقوله أهل العُرْف: قال فلان كذا، ونقل فلان كذا، وسَكَتَ عليه، أي لم يُرِدْه وإن تكلّم بعده، فلم يَصِحَّ النظير. قوله: (اغسل خطايايَ بالماء والثلج والبَرَد). قال ابن دقيق العيد: معناه أن الناس يَعُدُّون الثلجِ والبَرَد باطلا، فاصرفه يا ألله في غسل خطاياي، وقال آخرون: إن هذه الأشياء فيها قَرٌّ، فَأُحِبُّ أن يُطْفِأَ بها حرّ خطاياه، وحاصله: أن اطفِ حرَّ خطاياي بقَرِّ هذه الأشياء.
لم يُتَرْجِم فيه بشيءٍ، ثم أخرج حديث الكسوف وتعدُّد الركوع فيه، ولعلَّه قَطَعَ النظر عن الاستفتاح إشارةً إلى مذهب مالك رحمه الله تعالى، ولذا تصدَّى إلى بيان الأذكار، وحَذَفَ دعاء الاستفتاح من الترجمة. ثم أخرج حديثًا فيه: أنه قام طويلا، وركع طويلا، وسجد طويلا، فاندرجت فيه الأدعية، وقد جاءت مفسَّرة في الخارج في عين هذا الحديث. بقيت مسألة تعدُّد الركوعات، فاعلم أنه صَحَّ عنه ركوعان في «صحيح البخاري» و«الموطأ» لمالك، والروايات قد بَلَغَت فيه إلى خمس ركوعات، كما عند أبي داود، ورواية الثلاث عند مسلم، فذهب النوويُّ إلى حَمْلِها على تعدُّد الوقائع، وهو باطلٌ قطعًا، فإن الكسوفَ لم يقع في عهدِ صلى الله عليه وسلّم إِلا مرةً يوم مات إبراهيم عليه السلام، كما حقَّقه المحمود شاه الفرنساوي في رسالته. وقد نقل فيها الحساب القمري إلى الحساب الشمسي، وفي ضمنها عيَّن أعداد الكسوف في زمنه صلى الله عليه وسلّم وعيَّن وقته، فلم يحقِّق فيه إِلاّ كُسُوفًا واحدًا. أما خسوف القمر، فهذا الفاضل يكتب فيه شيئًا، وهو في السنة السادسة، كما في «صحيح ابن حِبَّان». ثم إنه غَلِطَ في موضعٍ، حيث أنكر النَّسِيءَ عند العرب، مع أنه ثابتٌ عنهم، فيكون في السنة عندهم ذو الحجة اثنين، هو شائِعٌ في مشركي أهل الهند أيضًا، وهكذا كان عند العرب، وقد أنكره هذا الفاضل وليس بصحيح، فاعلمه. والحاصل: أن المحقَّق أنها واقعةٌ واحدةٌ فقط، وركع النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فيها ركوعين. أمَّا روايات الثلاث والخمس فكلُّها معلولٌ، كما قاله ابن دقيق العيد، فإنها عند التحقيق آثار الْتَبَسَتْ بالمرفوع. ووجهُ الاجتهاد في تعدُّد الركوع عندهم أنهم لمَّا رأوا النبيَّ صلى الله عليه وسلّم زَادَ على ركوعٍ واحدٍ، ثَبَتَ عندهم جنسُ الزيادة، فحملوه على الجواز بقدر الحاجة. ولنا ما عند أبي داود: «فإذا رأيتموه، فصلُّوا كأحدث صلاةٍ صلَّيتموها»- بالمعنى- وأقرَّ بصحته أبو عمر. ووجه التمسُّك منه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لمَّا صلَّى بهم صلاةَ الكسوف وركع فيها ركوعين، ثم لم يقل: صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي، أو: مثل صلاتي هذه، بل أَحَالَها على أحدثِ صلاةٍ وهي الفجر، فَعُلِمَ أنه وإن كان ركع فيها بنفسه ركوعين، لكن الذي عَلِمْنَاه هو أن نصلِّي بها على شاكلة صلاة الفجر في عدد الركعات والركوع، لأنه لو أراد كذلك لم يكن ليتركَ الأقربَ عند التشبيه واختار الأبعدَ، فإنه كما قيل: جعل البديهي نظريًا. ولكان الأحسن والأسهل حينئذٍ أن يُقَال: صلُّوا كصلاتي هذه. كذا كان يقرِّره شيخي المحمود، ثم جاء «البدائع» مطبوعًا، فرأيت فيه نحوه عن أبي عبد الله البَلْخِيّ، وهو من كِبَار الحنفية. 745- قوله: (هِرَّةٌ)، والتاء فيه للوَحْدَة دون التأنيث. ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم رآها في جهنم، وإن كان دخولها في المستقبل، فإن حديدَ النظر يرى ما في المستقبل في زمن الحال بنحوٍ من الوجود، كرؤية الشجرة في البَذْر.
|